يرد الشيخ الأستاذ الدكتور محمد علي الصابوني على
الدكتور سليمان أتاش
بسم الله الرحمن الرحيم
الجنة بيد مالك الملك وحده
نحمده تعالى ونصلي ونسلم على رسوله الكريم سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين و بعد:
فقد قرأت بطريق الترجمة ما كتبه الأخ الكريم والأستاذ الفاضل السيد "سليمان اتاش" في مجلة "البحوث الإسلامية" التي تصدر باللغة التركية المقال الآتي بعنوان "الجنة ليست تحت يد أحد" وأنا أشد على يده وأبارك غيرته في الدفاع عن إخوته في الإنسانية من ذرية آدم عليه السلام، فهو لا يحب أن يدخل أحد النار وهو مطلب إنساني نبيل، يتمناه كل مؤمن بل كل عاقل لجميع أفراد البشر، لأننا جميعا إخوة في الإنسانية وأبناء رجل واحد "خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" (سورة النساء). فكيف لا يتمنى الإنسان نجاة إخوته وأخواته؟!
ولكن عنوان مقاله يثير الدهشة والاستغراب، فهل نحن المسلمين ادعينا أن الجنة ملك لنا؟ أم أنها دعاوى اليهود والنصارى المتعصبين لجنسهم ودينهم كما حكاه القرآن الكريم عنهم؟ "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" أي من كان على دين اليهودية وهو قول اليهود، أو على دين النصرانية وهو زعم النصارى وقد كذّب القرآن الفريقين فقال "تلك أمانيهم" أي تلك أهواؤهم و مزاعمهم "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" أي أعطونا الحجة والبرهان على أن الله تعالى خصّص لكم الجنة دون الناس، إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة لن يدخلها إلا اليهود والنصارى.
إذن هذه مزاعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى وليست أقوال المسلمين كما يظهر من النص القرآني الكريم، فنحن –بحمد الله- بريئون من هذه الدعوى.
الجنة لها شروط حدّدها القرآن
إن الجنة ليست بيد أحد، وليست ملكا لأحد، حتى يدخل فيها من شاء ويمنع من دخولها من شاء، وإنما هي بيد ملك الملوك، ومالك الملك، رب العزة والجلال، ولها شروط حدّدها القرآن الكريم، ينبغي مراعاتها والتقيد بها من غير تعصب ولا تفلّتٍ، فقرآننا واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار.
وسأكون مسرورا وشاكرا لأخي وصديقي الأستاذ سليمان إذا تخلى عن التعصب للرأي، والانتصار للفكر الذي يعتنقه، وأبدى استعداده لقبول المناقشة الهادئة التي لا أريد من ورائها إلا الوصول إلى الحق، فلتكن غايتنا هي معرفة وجه الصواب، ومعرفة الحق الخالص الذي جاء به الكتاب العزيز، دون تعصب ولا تزم....
لقد شرط القرآن الكريم شروطا لدخول الجنة، على لسان عيسى، ومحمد، وسائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، هذه الشروط هي الإيمان بالله وكبته، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بجميع ما جاء في القرآن العظيم دون تحريف ولا تبديل مع السمع والطاعة " (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرِّق بين أحد من رسله، وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) ومعنى التفريق بين الرسل هو: الإيمان بالبعض والكفر بالبعض، كما وضحه تعالى في آية أخرى (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا) والآية نزلت في اليهود والنصارى باتفاق المفسرين، لأنهم هم الذين يؤمنون ببعض الرسل، ويكفرون ببعض الرسل، فاليهود آمنوا بموسى، وكفروا بعيسى ومحمد، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد، وقدحكم الله بكفرهم جميعا بقوله (أولئك هم الكافرون حقا).
اليهود والنصارى كفار بنص الآيات القاطعة
وليست الآية في حق الملاحدة والمشركين، إنما هي في أهل الكتاب خاصة كما بينا، ونحن نسأل الأستاذ الفاضل والصديق العزيز كاتب المقال: هل اليهود والنصارى يؤمنون برسالة محمد، ويؤمنون بالقرآن العظيم؟ فإن قال: إنهم يؤمنون، فكيف يأمرنا القرآن بقتالهم، ويحكم عليهم بالكفر والضلال؟ ("قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق –يعني لا يؤمنون بدين الإسلام- من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"
ونحن المسلمين نقرأ في كل ركعة من ركعات الصلاة سورة الفاتحة وفيها "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم "المغضوب عليهم" بأنهم اليهود "والضالين" بأنهم النصارى، وليس بعد تفسير الرسول قول لأحد، (وانظر الحديث في تفسير ابن كثير)، بل إن هناك آيات كثيرة لا تحصى ، جعلت اليهود والنصارى مع المشركين في صف واحد في نار جهنم "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية" سورة البينة.
و قال عن اليهود "وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما".
وقال عن النصارى (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم)
وقال سبحانه (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وقال كذلك عنهم (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله و أحبائه قل فلم يعذبكم بذنوبكم)؟ فكل هذه الآيات ناطقة شاهدة بكفرهم، فكيف نحكم لهم بالإيمان ودخول الجنة، وهم يكذبون الله ورسوله ولا يدينون دين الحق؟ لما قال الله على لسان عيسى
(و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار)
لسنا نحن الذين حرمناهم من دخول الجنة، ولكنهم بكفرهم وزعمهم أن "عزير" و "المسيح" أبناء الله، وباعتقادهم بصلب المسيح بعد أن خلطوا عليه صفة الألوهية، هم الذين أبوا دخول الجنة، والقرآن الكريم أخبر عنهم أنهم كفروا وأشركوا بالله بادعائهم أن عيسى هو الله، أو هو ابن الله، أو هو ثالث ثلاثة!!
أين هم الذين يؤمنون برسالة محمد، ويعتقدون بصدق القرآن من اليهود والنصارى الآن؟ هل هم يعيشون على سطح كوكبنا الأرضي أم هم في عالم آخر في الزهرة أم المريخ مثلا؟ نريد من سيادتكم أن تدلونا على شخص واحد من اليهود والنصارى باقٍ على يهوديته أو نصرانيته يؤمن بجميع الكتب والرسل كما شرط الله لدخول الجنة، حتى نقر له بأنه من أهل الإيمان، وإذا لم يكن موجودا يكون الكلام كله عن خيالات وأحلام.
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وإتباعه شرط لدخول الجنة
ونقول لصديقنا الفاضل الأستاذ سليمان إن الإيمان بمحمد وإتباعه فيما جاء به عن الله شرط لدخول الجنة، وليس كما ادعى الأستاذ – عفا الله عنه- أنهم إذا اعتقدوا أن الرسول عليه السلام قد أوحى الله عليه، وما جاء به حق، يكفيهم ذلك أن يعبدوا الله على دينهم، وليس شرطا أن يتركوا دينهم ويتبعوا دين الرسول، كما جاء في مقاله، وقد بينا أنه لا أحد من اليهود والنصارى يعتقد بأن رسولنا حق، وكتابنا حق، لا البابا الكبير رئيس الديانة النصرانية، ولا أصغر قسيس أو خاخام، فجميع اليهود والنصارى يكذبون برسالة محمد، ولو فرضنا جدلا بأنهم يؤمنون برسالته عليه السلام، ولا يعتقدون بألوهية المسيح، أو أنه ابن الله عز وجل، فلا بد من إتباع الرسول محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، والتخلَّي عن الدين الذي يخالف دينه، شرط الله ذلك في كتابه العزيز، فمن المقطوع به أن الرسول مبعوث لجميع البشر لا للعرب وحدهم كما يزعم اليهود والنصارى عندما نجاوبهم بالحجة الساقطة في أمر رسالته يقولون من باب المجاملة: إنه رسول للعرب لا يجب علينا إتباعه، ونحن الآن نتحدث مع المسلمين ومع أستاذ فاضل من أساتذة المسلمين في التفسير وعلوم الشريعة هو الأستاذ "سليمان أتاش" نسألهم هل رسالة نبينا محمد خاصة بالعرب أم عامة لجميع الناس؟ والجواب معروف لا ينكره أحد أن رسالته عامة بدليل قوله سبحانه (وما أرسلناك ألا كافة للناس بشيرا ونذيرا) وقوله (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) فإذا كان مرسلا إلى جميع البشر كيف لا يجب إتباعه؟ وهل يفرض الله الإيمان به ثم يبيح مخالفته و عدم إتباعه؟
وإذا كان الله عز وجل قد فرض على جميع لأنبياء والرسل، الإيمان بمحمد عليه السلام ونصرته وإتباعه فيما جاء به، وأخذ عليهم العهد والميثاق بذلك في قوله (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري –أي عهدي-، قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) هذا هو نص الآية الكريمة في سورة آل عمران، فهل يكون الرسل جميعا مؤمنين بإتباع محمد، وإتباع دينه وشريعته –إن أدركوا عصره وزمانه- وأممهم وأتباعهم غير مكلفين بالتباع دين محمد؟ إن هذا حقا لغريب، وفهم عجيب، للشريعة الإسلامية الغراء.
الله تعالى شرط لصحة إيمان اليهود والنصارى، الاتباع لمحمد عليه السلام بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) فمن هو هذا الرسول؟ هل هو موسى، هل هو عيسى، أو نوح، أو إبراهيم، لا بل هو محمد عليه السلام بدليل وصفه بالأمية، وبأنه مذكور في التوراة والإنجيل، ولم يقل تعالى الذين يؤمنون بالنبي أو يصدقون برسالة النبي، وإنما قال (يتبعون النبي) والتباعه هو العمل بشرعه، والتمسك بدينه، و إلا فلا معنى للإيمان غير التزام والتباع، أفليس هذا من شروط التصديق بالرسول الذي بعثه الله رحمة للعالمين؟! والله تعالى يقول (فإن آمنوا بمثل آمنتم به فقد اهتدوا) فشرط للهداية الإيمان بجميع ما يؤمنون به المسلمون، ومنها اتباع خاتم المرسلين في دينه الجديد وهو دين الإسلام.
كل دين يخالف الإسلام مرفوض
كما أنه سبحانه جعل كل دين يخالف دين الإسلام، الذي جاء به محمد عليه السلام مرفوضا غير مقبول عند الله، حتى ولو تمسك به صاحبه، فإنه بمجيء النبي الخاتم انتهى كل دين، ولن يقبل الله من أحد التعبد بغير الإسلام، وصدق الله العظيم (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) فقد حكم الله بشقائه وضلاله وخسرانه، وقال سبحانه (أن الدين عند الله الإسلام) أي لا دين عند الله مقبول إلا دين الإسلام الذي جاء به محمد، إذا أطلق لفظ الإسلام، فلا يراد به إلا دين الإسلام خاصة، بدليل قوله سبحانه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فهل هناك عاقل يقول أن المراد بالإسلام هنا هو دين نوح، أو إبراهيم، أو دين موسى وعيسى مع أنهم جميعا مسلمون؟ بمعنى مستسلمون لحكم الله وأمره، وأنهم جاءوا بالتوحيد؟ أم أن المراد به دين محمد خاصة؟ بدليل أن الآية خاطبت الأمة الإسلامية بعد اكتمال نزول القرآن!!
وكذلك قوله تعالى (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) هل يراد بها أن نموت على …. يهودية أو النصرانية مع أن موسى وعيسى كل منهما جاء برسالة التوحيد، أم أن المراد دين الإسلام خاصة؟ فكيف يقول أخونا الفاضل الأستاذ سليمان: إن كل منتسب إلى دين سماوي مبشر بالجنة، حتى ولو بقي على دينه، والله قد حكم عليه بالخسران والشقاء والخلود في نار الجحيم؟
أي القولين أصح؟ كلام الله الذي قال (وهو في الآخرة من الخاسرين) أم كلام الأستاذ سليمان الذي فتح باب الجنة على مصراعية وقال لجميع أهل الأديان: أدخلوا الجنة بسلام، ولا حرج أن تبقوا متمسكين بدينكم، حتى ولو لم تتبعوا خاتم الأنبياء والمرسلين!!
عجيب من الأستاذ هذا التسرع، والمخالفة للنصوص القطعية في الكتاب والسنة.
و نحبّ أن نسأل الأخ العزيز هل هو ممن يرفض السنة النبوية، أم ممن يعتقد بها و يصدقها؟ وما أظنه إلا ممن يطأطيء رأسه إجلالا لها، واحتراما لصاحبها عليه أفضل الصلاة والتسليم، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هؤلاء، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا أدخله الله النار).
فالله حكم بدخول اليهود والنصارى نار جهنم، إذا لم يتركوا عقائدهم ويدخلوا في دين الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم وضّح أنهم من أهل النار حتى يتبعوا الدين الحق، ويؤمنوا برسالته وكتابه، فلا يجوز لنا أن نتحكم بآرائنا فنقول إنهم من أهل الجنة ونخالف الكتاب والسنة، نحن نتمنى أن يدخل جميع البشر الجنة، ولكن مفاتيح الجنة ليست بأيدينا نحن المسلمين، ولا بأيدي القسس والرهبان، وقد جعل الله مخالفة أمر الرسول سببا لغضب الله وسخطه (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) فكيف بمن لم يؤمن به ولم يتبعه فيما جاء به من عند الله عز و جل؟
الإسلام يعلو ولا يعلى عليه
والإسلام هو آخر الرسالات السماوية، جمع الله فيه كمالات جميع الأديان، وأخبر تعالى خبرا قاطعا جازما أنه بعث به رسوله محمدا عليه السلام ليكون حاكما وناسخا لجميع الأديان (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) فما معنى (ليظهره على الدين كله) أي ليعليه على سائر الأديان من يهودية ونصرانية و غيرهما.
قال العلامة أبو السعود في تفسيره وهو من أكابر علماء التفسير: وقد أنجز الله وعده بإعزاز دين الإسلامٍ، حيث جعله الدين الخاتم بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام (تفسير أبي السعود) وقال سبحانه (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) أي مسيطرا عليها وحاكما عليها، فالقرآن هو الأمين والحاكم والشاهد على كل كتاب قبله كما قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى (ومهيمنا عليه) فهو الذي يشهد عليها بالصحة أو الفساد، وقد أخبرنا تعالى بأن اليهود والنصارى حرفوا كتبهم (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) وقال عن النصارى (فنسوا حظا مما ذكروا به) أي تركوا العمل بكثير من أحكام الإنجيل (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) فأين هي التوراة الحقيقية، وأين هو الإنجيل الأصلي الذي من تمسك به دخل الجنة؟
وإذا كان من تمسك بأي دين من الأديان السماوية ناجيا من عذاب الله حتى بعد مبعث محمد، فبإمكان المسلم أن يترك العمل بالقرآن، ويترك فريضة الصوم والجهاد مثلا، ويعمل بالإنجيل الذي لا يكلف الناس بهذه التكاليف الشاقة من القتال والجهاد؛ عملا بنص الإنجيل (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر…) إلى آخره وهذا لا يقره أحد من المسلمين.
خطأ جسيم في فهم آية البقرة
وقد أخطأ صديقنا العزيز في فهم آية البقرة (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) البقرة / 62، فظن أن كل من تمسك بدين سماوي دخل الجنة، ولهذا يقول في مقاله المنشور في المجلة: هذا القرآن يبشر كل من انتسب إلى دين سماوي وآمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا بدخول الجنة، واستدل بالآية الكريمة على هذه الدعوى، والآية لا تفيد هذا المعنى، وإنما تخبر عن طوائف المؤمنين، كل في زمانه فاليهودي الذي آمن بموسى في زمانه، والنصراني الذي آمن بعيسى في زمانه، والمؤمن الذي آمن بمحمد في زمانه، كل هؤلاء أتباع الرسل يدخلون الجنة إذا كانوا مصدقين ومتبعين لأنبيائهم في عصرهم وفي زمانهم، وأما من كفر منهم فهو من أهل النار كما قال سبحانه (فآمنت الطائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة) وأما بعد بعثت محمد فلا يجوز إتباع موسى، وعيسى والعمل بكتابيهما بل لا بد من إتباع القرآن والإيمان بأتم الرسل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر حين رآه يقرأ أوراقا من التوراة، فغضب عليه السلام ثم قال لعمر: "لقد أتيتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي" إلى آخره (انظر القصة في تفسير الحافظ ابن كثير). كما أخطأ صديقنا أيضا -غفر الله له- في فهم سورة المائدة يظن بأن الله أثنى على النصارى مع بقائهم على دينهم، وعدم دخولهم في الإسلام، وجعلها حجة له أي أن من تمسك بدينه ولم يتبع محمدا فهو من أهل الإيمان وهي قوله تعالى (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) ولو أنه أكمل نص الآية لعرف أنها نزلت في أناس مخصوصين من النصارى، هم نصارى الحبشة لما اجتمعوا بالرسول عليه السلام وسمعوا القرآن وبكوا وآمنوا حتى اخضلّت لحاهم بالدموع من شدة البكاء، ثم رجعوا إلى النجاشي معلنين إسلامهم، ولنستمع إلى كمال الآية الكريمة (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) أفلا تدلّ هذه الآية على إيمانهم بالقرآن وتصديقهم للرسول؟
أما ما استدل به الأستاذ الفاضل في مقاله على جواز بقائهم على دينهم ودخولهم الجنة حتى ولو لم يتبعوا الرسول، ولم يدخلوا في الإسلام، فهي أمور عجيبة غريبة من أستاذ متبحّرٍ في العلوم الإسلامية كدعوى أن الرسول حكم على بني قريظة بحكم التوراة لمخالفتهم العهد، فهذا غير صحيح، لأنهم نزلوا على حكم "سعد بن عبادة" كما هو معلوم لدى جميع المفسرين وأهل السير فحكم عليهم سعد بأن تُقتل مقاتلتهم –أي رجالهم- وسُبي نسائهم وذراريُّهم وأعوالهم، وقال له الرسول الكريم "لقد حكمت بهم بحكم الله من فوق سبع سماواته" (وانظر القصة في تفسير ابن كثير في سورة الأحزاب) وكيف يُتصور أن يخالف الرسول أمر الله في أهل الكتاب، وقد أمره الله إن تحاكموا عنده أن يحكم منهم بالقرآن (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) فهل نقول بعد هذا إن الرسول حكم عليهم بالتوراة وترك حكم القرآن؟
وأما آية (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) ؟ فهي توبيخ لليهود، لا إقرار لهم في تحكيم التوراة، وهي تعجيب للرسول من صنيع اليهود، فهم لا يؤمنون بنبوته ثم يأتون إليه عليه السلام للتحاكم عنده، ويتركون ما يزعمون أنه حق فهو التوراة، ومعنى الآية: كيف يحكمونك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وهم لا يؤمنون بك ولا بكتابك؟ أليس هذا أمرا عجيبا (وما أولئك بالمؤمنين)
وأما قصة وفد نصارى نجران، وأذن الرسول لهم أن يسكنوا في مسجده ويعبد الله على دينهم، فهل لهم منها أن الرسول يقرهم على الصلبان، وعبادة غير الرحمان، كما استدل به الأستاذ الفاضل؟ إن هذه قضية ذكرها المفسرون، وخلاصتها أن وفدا من نصارى نجران، جاءوا إلى المدينة المنورة لمناظرة الرسول، وفي أعناقهم الصلبان، فأذن لهم رسول الله بدخول مسجده، فرحّب بهم رسول الله، واستأذنوه أن يصلوا، فأذن لهم فتوجهوا إلى المشرق –جهة بيت المقدس- ثم جاءوا إلى الرسول فتناظروا معه، فقالوا لِم تشتم صاحبنا؟ يعنون عيسى عليه السلام، فقال لهم: وماذا أقول فيه؟ قالوا: تقول: بأنه عبد، قال: وهل هذه شتيمة؟ نعم إنه عبد لله، قالوا: كيف يكون عبدا وقد أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه –أي الأعمى- والأبرص؟ فقال بعضهم: إنه الله، وقال بعضهم: أنه ثالث ثلاثة، فقال لهم رسول الله عليه السلام: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت، وأن عيسى يموت!! قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علمه الله؟ فالو: لا، قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يحدث الحدث؟ -أي لا يبول ولا يتغوط- وأن عيسى كان يأكل ويشرب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى، فقال لهم عليه السلام فكيف يكون كما زعمتم إلها أو ابن إله؟ فسكتوا وأبوا إِلا الجحود، فدعاهم رسول الله إلى المباهلة –أي الملاعنة- فخافوا وامتنعوا، فأنزل الله سورة آل عمران من أولها إلى نيِّف وثمانين آية (ألم. الله لا إلة إلا هو الحي القيوم. نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه... إلى قوله إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) فقد دعاهم الرسول إلى المباهلة، وهذا أسلوب الحكمة في الدعوة، فهل يريد الأستاذ الكريم إذا جاء "البابا" إلى شيخ الإسلام مثلا وفي عنقه الصليب، ويقول له: اخرج يا كافر، لا يمكنني أن أناظرك حتى تخلع الصليب وتؤمن بدين الإسلام!! ما فعله الرسول هو ما يقتضيه منطق العقل والحكمة، وليس فيه أنه أقرّهم على باطلهم. أخيرا أرجو من الأستاذ أخينا الفاضل "سليمان أتاش" ألا يكون مفرطا في الرحمة على من كفر بالله، فليس هو أرحم من الله على عباده، وإذا كان الله قد حكم لهم بدخول النار إن لم يؤمنوا لدين الحق، دين الإسلام، فهل باستطاعة أحد من البشر أن يعارض الله في حكمه ويقول: لازم أن يدخلوا الجنة؟ وأخسر الناس من صدَّ عن دين الله، وباع دينه بدنيا سواه
Hiç yorum yok:
Yorum Gönder