المكتوب العشرون
بديع الزمان سعيد النورسي
باسمه سبحانه
(وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ)
"لا إله إلاّ الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي، ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ قدير، وإليه المصير"[1]
[ان هذه الجملة التي تلخص التوحيد، عبارة عن احدى عشرة كلمة، ولقراءتها عقب صلاتي الفجر والمغرب فضائل جمة، حتى وردت في احدى الروايات الصحيحة انها تحمل مرتبة "الاسم الأعظم". فلا غرو اذن أن تقطر كل كلمة من كلماتها أملاً شافياً وبشرى سارة، وان تحمل مرتبة جليلة من مراتب توحيد الربوبية، وتبين من زاوية الاسم الاعظم كبرياء الوحدانية وكمال التوحيد.
وحيث أن هذه الحقائق الواسعة الرفيعة قد وضحت بجلاء في سائر "الكلمات" فنحيل اليها. ونكتفي هنا بوضع فهرس لها - بناء على وعد سابق - على صورة خلاصة مجملة جداً، تتكون من "مقامين" و "مقدمة"].
[1] "كان صلى الله عليه وسلم يقول في دُبر كل صلاة مكتوبة [حين يسلم] :
لاإله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد (يحيي ويميت،
وهو حي لايموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير).
"ثلاث مرات "
اللهم لامانع لما اعطيت ولامعطي لما منعت ولاينفع ذا الجدّ منك الجدّ.
/ صحيح: انظر تفصيل التخريج وعزو هذه الزيادات في الاحاديث الصحيحة (196) - الاحاديث التي هي خارج الاقواس موجودة في البخاري ومسلم. والزيادة الاولى المحصورة بين القوسين لأحمد وابي داود، والثانية للطبراني والثالثة للنسائي وابي خزيمة.
أقول: وهذا الحديث الذي أورده الاستاذ النورسي من العجائب، اذ عندما تتبعت احاديث الورد في الصباح والمساء وبعد الصلاة وجدتها تختلف بالسياق. وجمع الزيادات بهذه الطريقة صعبة للغاية تحتاج الى مصادر واسعة وطول باع في الحديث، فياترى ما تفسير ايراد الاستاذ لهذا النص وبتلك الزيادات دونما رجوع او توفر مصادر كالتي يمتلكها المحدّثون.. ان التفسير الوحيد هو: إكرام إلهي.
المقدمة
اعلم يقيناً أن اسمى غاية للخلق، واعظم نتيجة للفطرة الانسانية.. هو "الايمان بالله".. واعلم ان أعلى مرتبة للانسانية، وافضل مقام للبشرية.. هو "معرفة الله" التي في ذلك الايمان.. واعلم ان أزهى سعادة للانس والجن، وأحلى نعمة.. هو "محبة الله" النابعة من تلك المعرفة.. واعلم أن اصفى سرور لروح الانسان، وانقى بهجة لقلبه.. هو "اللذة الانسان، وانقى بهجة لقلبه.. هو "اللذة الروحية" المترشحة من تلك المحبة.
أجل! ان جميع انواع السعادة الحقة، والسرور الخالص، والنعمة التي ما بعدها نعمة، واللذة التي لا تفوقها لذة، انما هي في "معرفة الله".. في "محبة الله". فلا سعادة، ولا مسرة، ولا نعمة حقاً بدونها.
فكل من عرف الله تعالى حق المعرفة، وملأ قلبه من نور محبته، سيكون أهلاً لسعادة لا
تنتهي، ولنعمة لا تنضب، ولأنوار واسرار لا تنفد، وسينالها إما فعلاً وواقعاً أو استعداداً وقابلية. بينما الذي لا يعرف خالقه حق المعرفة، ولا يكنّ له ما يليق من حب وود، يصاب بشقاء مادي ومعنوي دائمين، ويظل يعاني من الآلام والأوهام ما لا يحصر.
نعم! ان هذا الانسان البائس الذي يتلوى ألماً من فقده مولاه وحاميه، ويضطرب من تفاهة حياته وعدم جدواها، وهو عاجز وضعيف بين جموع البشرية المنكودة.. ماذا يغنيه عما يعانيه ولو كان سلطان الدنيا كلها!
فما اشد بؤس هذا الانسان المضطرب في دوامة حياة فانية زائلة وبين جموع سائبة من البشر ان لم يجد مولاه الحق، ولم يعرف مالكه وربه حق المعرفة! ولكن لو وجد ربه وعرف مولاه ومالكه لالتجأ الى كنف رحمته الواسعة، واستند الى جلال قدرته المطلقة.. ولتحولت له الدنيا الموحشة روضة مؤنسة، وسوق تجارة مربحة.
المقام الأول
كل كلمة من كلمات هذا الكلام التوحيدي الرائع تزف بشرى سارة، وتبث املاً دافئاً. وفي كل بشرى شفاء وبلسم.. وفي كل شفاء لذة معنوية وانشراح روحي.
" الكلمة الأولى: "لا إله إلا الله"
هذه الكلمة تتقطر بشرى عظيمة واملاً بهيجاً كالآتي:
ان روح الانسان المتلهفة الى حاجات غير محدودة، والمستهدفة من قبل اعداء لا يُعدّون.. هذه الروح المبتلاة بين حاجات لا تنتهي واعداء لا يحصرون، تجد في هذه الكلمة العظيمة منبعاً ثراً من الاستمداد، بما يفتح لها ابواب خزائن رحمة واسعة ترد منها ما يطمئن جميع الحاجات وتضمن جميع المطاليب.. وتجد فيها كذلك مرتكزاً شديداً ومستنداً رضياً يدفع عنها جميع الشرور، ويصرف عنها جميع الاضرار. وذلك بما تري الانسان من قوة مولاه الحق، وترشده الى مالكه القدير، وتدله على خالقه ومعبوده. وبهذه الرؤية السديدة والتعرف على الله الواحد الأحد، تنقذ - هذه الكلمة - قلب الانسان من ظلام الوحشة والاوهام، وتنجي روحه من آلام الحزن والكمد، بل تضمن له فرحاً ابدياً، وسروراً دائماً.
" الكلمة الثانية: "وحده"
هذه الكلمة تشرق املاً وتزف بشرى سارة كالآتي:
ان روح البشر، وقلبه المرهقين بل الغارقين الى حد الاختناق تحت ضغوط ارتباطات شديدة واواصر متينة مع اغلب انواع الكائنات، يجدان في هذه الكلمة ملجأ اميناً، ينقذهما من تلك المهالك والدوامات. أي أن كلمة "وحده" تقول معنىً:
ان الله واحد أحد، فلا تتعب نفسك - ايها الانسان - بمراجعة الأغيار. ولا تتذلل لهم، فترزح تحت منتهم وأذاهم.. ولا تحني رأسك امامهم وتتملق لهم.. ولا ترهق نفسك فتلهث وراءهم.. ولا تخف منهم وترتعد أزاءهم.. لأن سلطان الكون واحد، وعنده مفاتيح كل شئ، بيده مقود كل شئ، تنحل عقد كل شئ بأمره، وتنفرج كل شدة باذنه.. فان وجدته فقد ملكت كل شئ، وفزت بما تطلبه، ونجوت من أثقال المن والاذى ومن أسر الخوف والوهم.
" الكلمة الثالثة: "لا شريك له"
اي: كما لاندّ له ولا ضد في الوهيته لأن الله واحد، فان ربوبيته واجراءاته وايجاده الاشياء منزهة كذلك من الشرك. بخلاف سلاطين الأرض، اذ يحدث أن يكون السلطان واحداً متفرداً في سلطنته الاّ انه ليس متفرداً في اجراءاته، حيث أن موظفيه وخدمه يعدّون شركاء له في تسيير الامور وتنفيذ الاجراءات، ويمكنهم ان يحولوا دون مثول الجميع أمامه، ويطلبوا منهم مراجعتهم اولاً! ولكن الحق سبحانه وتعالى وهو سلطان الازل والابد، واحد لا شريك له في سلطنته، فليس له حاجة قط في اجراءات ربوبيته ايضاً الى شركاء ومعينين للتنفيذ، اذ لا يؤثر شئ في شئ الاّ بأمره وحوله وقوته، فيمكن للجميع ان يراجعوه دون وسيط، لعدم وجود شريك أو معين. ولا يقال عندئذٍ للمراجع: لا يجوز لك الدخول في الحضرة الإلهية.
وهكذا تحمل هذه الكلمة في طياتها أملاً باسماً وبشارة بهيجة، فتقول:
ان الانسان الذي استنارت روحه بنور الايمان، ليستطيع عرض حاجاته كلها بلا حاجز ولا مانع بين يدي ذلك الجميل ذي الجلال، ذلك القدير ذي الكمال، ويطلب ما يحقق رغباته، اينما كان هذا الانسان وحيثما حلّ. فيفرش حاجاته ومطاليبه كلها امام ذلك الرحيم الذي يملك خزائن الرحمة الواسعة، مستنداً الى قوته المطلقة، فيمتلى عندئذ فرحاً كاملاً وسروراً غامراً.
" الكلمة الرابعة: "له الملك"
أي ان الملك كله له، دون استثناء.. وانت.. ايضاً ملكه، كما انك عبده ومملوكه، وانت عامل في ملكه..
فهذه الكلمة تفوح املاً وتقطر بشرى شافية، وتقول:
أيها الانسان! لا تحسب انك مالك نفسك.. كلا.. لانك لا تقدر على أن تدير امور نفسك.. وذلك حمل ثقيل، وعبء كبير، ولا يمكنك ان تحافظ عليها، فتنجيها من البلايا والرزايا، وتوفر لها لوازم حياتك.. فلا تجرّع نفسك اذن الآلام سدىً، فتلقي بها في احضان القلق والاضطراب دون جدوى، فالملك ليس لك، وانما لغيرك، وذلك المالك قادر، وهو رحيم. فاستند الى قدرته، ولا تتهم رحمته.. دع ما كدر،
خذ ما صفا.. انبذ الصعاب والاوصاب وتنفـس الصعـداء، وحز على الـهـنـاء والسعادة…وتقول ايضاً:
ان هذا الوجود الذي تهواه معنىً، وتتعلق به، وتتألم لشقائه واضطرابه، وتحس بعجزك عن اصلاحه.. هذا الوجود كله مُلك لقادر رحيم. فسلّم الملك لمولاه، وتخلّ عنه فهو يتولاه، واسعد بمسراته وهنائه، دون أن تكدرك معاناته ومقاساته، فالمولى حكيم ورحيم، يتصرف في ملكه كيف يشاء وفق حكمته ورحمته.
واذا ما اخذك الروع والدهشة، فأطل من النوافذ ولا تقتحمها،
وقل كما قال الشاعر ابراهيم حقي[1]:
لنرَ المولى ماذا يفعلُ
فما يفعل هو الأجمل.
[1] ابراهيم حقي عالم تركي جليل وزاهد متصوف عاش في القرن الثاني عشر الهجري، قضى اواخر عمره في »تيللو« جنوب شرقي تركيا، اشهر مؤلفاته »معرفتنامه«. - المترجم.
الكلمة الخامسة: "له الحمد"
أي أن الحمد والثناء والمدح والمنة خاص به وحده، ولائق به وحده، لأن النعم والآلاء كلها منه وحده، وتفيض من خزائنه الواسعة، والخزائن دائمة لا تنضب.
وهكذا تمنح هذه الكلمة بشرى لطيفة، وتقول: أيها الانسان!
لا تقاسي الالم بزوال النعمة، لأن خزائن الرحمة لا تنفد، ولا تصرخ من زوال اللذة، لأن تلك النعمة ليست الاّ ثمرة رحمة واسعة لا نهاية لها. فالثمار تتعاقب ما دامت الشجرة باقية.
واعلم ايها الانسان
انك تستطيع ان تجعل لذة النعمة اطيب واعظم منها بمائة ضعف، وذلك برؤيتك إلتفاتة الرحمة اليك، وتكرمها عليك، وذلك بالشكر والحمد. اذ كما ان ملكاً عظيماً وسلطاناً ذا شأن اذا ارسل اليك هديةً - ولتكن تفاحة مثلاً - فان هذه الهدية تنطوي على لذة تفوق لذة التفاح المادية باضعاف الاضعاف، تلك هي لذة الالتفات الملكي والتوجّه السلطاني المكلل بالتخصيص والاحسان، كذلك كلمة "له الحمد" تفتح امامك باباً واسعاً تتدفق منه لذة معنوية خالصة هي ألذ من تلك النعم نفسها بألف ضعف وضعف، وذلك بالحمد والشكر، أي: بالشعور بالإنعام عن طريق النعمة، أي: بمعرفة المنعم بالتفكر في الإنعام نفسه، أي: بالتفكر والتبصر في التفات رحمته سبحانه وتوجـهه اليك وشـفقته علـيـك، ودوام انـعامه عليك.
الكلمة السادسة: "يحيى"
أي: هو الذي يهب الحياة، وهو الذي يديمها بالرزق، وهو المتكفل بكل ضروراتها وحاجاتها، وهو الذي يهيئ لوازمها ومقوماتها. فالغايات السامية للحياة تعود اليه، والنتائج المهمة لها تتوجه اليه، وتسع وتسعون بالمائة من ثمراتها ونتائجها تقصده وترجع اليه.
وهكذا فهذه الكلمة تنادى هذا الانسان الفاني العاجز، وتزجي له البشارة، نافخة فيه روح الأمل، وتقول:
ايها الانسان!
لا ترهق نفسك بحمل اعباء الحياة الثقيلة على كاهلك الضعيف، ولا تذهب نفسك حسرات على فناء الحياة وانتهائها. ولا تظهر الندم والتذمر من مجيئك الى الحياة كلما ترى زوال نعيمها وتفاهة ثمراتها..
واعلم ان حياتك التي تعمر وجودك انما تعود الى "الحي القيوم" فهو المتكفل بكل حاجاتها ولوازمها. فهذه الحياة تعود اليه وحده، بغاياتها الوفيرة، ونتائجها الكثيرة. وما أنت الاّ عامل بسيط في سفينة الحياة. فقم بواجبك أحسن قيام، ثم اقبض اجرتك وتمتع بها، وتذكر دائماً: مدى عِظمَ هذه الحياة التي تمخر عباب الوجود، ومدى جلالة فوائدها، وثمراتها، ومدى كرم صاحبها وسعة رحمة مولاها.. تأمل ذلك واسبح في فضاء السرور، واستبشر به خيراً، وادّ شكر ما عليك تجاه مولاك. واعلم بأنك ان إستقمتَ في اعمالك تسجّل في صحيفتها اولاً نتائج سفينة الحياة هذه، فتوهب لك حياة باقية، وتحيا حياة ابدية.
الكلمة السابعة: "ويميت"
اي: انه هوالذي يهب الموت، اي: هو الذي يسرّحك من وظيفة الحياة، ويبدل مكانك في الدنيا الفانية، وينقذك من عبء الخدمة، ويحررك من مسؤولية الوظيفة. اي: يأخذك من هذه الحياة الفانية الى الحياة الباقية.
وهكذا فهذه الكلمة تصرخ في اذن الانس والجن الفانين وتقول:
بشراكم.. الموت ليس اعداماً، ولا عبثاً ولا سدى ولا انقراضاً، ولا انطفاءً، ولا فراقاً ابدياً .. كلا فالموت ليس عدماً، ولا مصادفة، ولا انعداماً ذاتيا بلا فاعل.. بل هو تسريح من لدن فعال حكيم رحيم، وتبديل مكان، وتغيير مقام، وسَوق نحو السعادة الخالدة.. حيث الوطن الأصلي.. أي هو باب وصال لعالم البرزخ.. عالم يجمع تسعةً وتسعين بالمائة من الاحباب.
الكلمة الثامنة: "وهو حي لا يموت"
اي: ان الكمال والحسن والاحسان الظاهر في الموجودات وسيلةً للمحبة.. يتجلى بما لا يمكن وصفه وبما لا يحده حدود وفوق الدرجات العلى من مالك الجمال والكمال والاحسان، فومضةٌ من تجليات جماله سبحانه تعادل جميع محبوبات الدنيا باسرها.. هذا الإله المحبوب المعبود له حياة أبدية دائمة منزهة عن كل شوائب الزوال وظلال الفناء، مبرأة عن كل عوارض النقص والقصور.
اذن فهذه الكلمة تعلن للملأ جميعاً من الجن والانس وارباب المشاعر والفطنة وأهل العشق والمحبة وتقول:
اليكم البشرى.. اليكم نسمة أمل وخير، ان لكم محبوباً ازلياً باقياً، يداوي الجروح المتمخضة من لوعة الفراق الابدي لمحبوبتكم الدنيوية ويمسها ببلسمه الشافي بمرهم رحمته. فما دام هو موجوداً، وما دام هو باقياً فكل شئ يهون.. فلا تقلقوا ولا تبتئسوا. فان الحسن والاحسان والكمال الذي جعلكم مشغوفين باحبائكم ليس الاّ لمحة من ظل ضعيف انشق عن ظلال الحجب والاستار الكثيرة جداً لتجلٍ واحدٍ من تجليات جمال ذلك المحبوب الباقي. فلا يعذبنكم زوال اولئك وفراقهم، لانهم جميعاً ليسوا الاّ نوعاً من مرايا عاكسة، وتبديل المرايا وتغييرها يجدد ويجمّل انعكاسات تجلي الجمال وشعشعته الباهرة، فما دام هو موجوداً، فكل شئ موجود اذن.
الكلمة التاسعة: "بيده الخير"
أي: ان الخير كله بيده، واعمالكم الخيرة كلها تسجل في سجله، وما تقدموه من صالحات الاعمال جميعها تدرج عنده.
فهذه الكلمة تنادي الجن والانس، وتزف لهم البشرى، وتهب لهم الأمل والشوق فتقول:
ايها المساكين!
لا تقولوا عندما تغادرون الدنيا الى المقبرة: "أواه.. وا اسفاه.. واحسرتاه، لقد ذهبت اموالنا هباءً، وضاع سعينا هدراً، فدخلنا ضيق القبر بعد فسحة الدنيا!.. لا.. لا تصرخوا يائسين، لأن كل ما لديكم محفوظ عنده سبحانه، وكل ما قدمتموه من عمل وجهد قد سجل ودوّن عنده، فلا شئ يضيع ولا جهد ينسى، لأن ذا الجلال الذي بيده الخير كله سيثيبكم على اعمالكم، وسيدعوكم للمثول امامه بعد ان يضعكم في التراب.. مثواكم الموقت.
فما اسعدكم انتم اذن، وقد اتممتم خدماتكم، وانهيتم وظائفكم، برئت ساحتكم.. وانتهت ايام المعاناة والأعباء الثقيلة. فانتم ماضون الآن لقبض الاجور واستلام الارباح.
أجل!. ان القادر الجليل الذي حافظ على البذور والنوى - التي هي صحف اعمال الربيع الماضي ودفاتر خدماته وحجرات وظائفه - ونشرها في هذا الربيع الزاهي وفي أبهى حلة، وفي غاية التألق، وفي اكثر بركة وغزارة، وفي أروع صورة... ان هذا القدير الجليل لا ريب يحافظ ايضاً على نتائج حياتكم ومصائر اعمالكم، وسيجازيكم بها أحسن الجزاء وأجزل الثواب.
الكلمة العاشرة: "وهو على كل شئ قدير"
أي: أنه واحد أحد. قادر على كل شئ، لا يشق عليه شئ، ولا يؤوده شئ، ولا يصعب عليه أمر، فخلق ربيع كامل - مثلاً - سهل ويسير عليه كخلق زهرة واحدة. وخلق الجنة عنده كخلق ذلك الربيع وبالسهولة واليسر الكاملين. فالمخلوقات غير المحدودة التي يوجدها ويجددها كل يوم، كل سنة، كل عصر، لتشهد كلها بألسنة غير محدودة على قدرته غير المحدودة.
فهذه الكلمة ايضاً تمنح املاً وبشرى وتقول:
ايها الانسان!
ان اعمالك التي اديتها، وعبوديتك التي قمت بها، لا تذهب هباءً منثوراً، فهناك دار جزاء خالدة، ومقام سعادة هانئة قد هئ لك. فأمامك جنة خالدة متلهفة لقدومك، مشتاقة اليك. فثق بوعد خالقك ذي الجلال الذي تخر له ساجداً عابداً، وآمن به واطمئن اليه، فانه محال أن يخلف وعداً قطعه على نفسه، اذ لا تشوب قدرته شائبة أو نقص، ولا يداخل اعماله عجز أو ضعف، فكما خلق لك حديقتك الصغيرة ويحييها، فهو قادر على ان يخلق لك الجنة الواسعة، بل قد خلقها فعلاً، ووعدك بها. ولأنه وعد فسيفي بوعده حتماً ويأخذك الى تلك الجنة.
وما دمنا نرى أنه يحشر وينشر في كل عام على وجه البسيطة اكثر من ثلاثمئة الف نوع من انواع النباتات وامم الحيوانات وبانتظام كامل وميزان دقيق، وفي سرعة فائقة وسهولة تامة.. فلابد أن هذا القادر الجليل، قادر ايضاً على أن يضع وعده موضع التنفيذ.
وما دام القادر المطلق يوجد في كل سنة آلاف النماذج للحشر والجنة وبمختلف الانماط والاشكال.. وما دام أنه يبشّر بالجنة الموعودة، ويعد بالسعادة الابدية في جميع أوامره السماوية.. وما دامت جميع اجراءاته وشؤونه حقاً وحقيقة وصدقاً وصائبة.. وما دامت جميع آثاره تشهد على أن الكمالات قاطبة انما هي دلالات على أنه منزّه عن كل نقص أو قصور.. وما دام نقض العهد وخلاف الوعد والكذب والمماطلة هو من أقبح الصفات فضلاً عن أنه نقص وقصور.. فلابد أن ذلك القدير ذا الجلال، وذلك الحكيم ذا الكمال، وذلك الرحيم ذا الجمال سينفذ وعده حتماً مقضياً، وسيفتح ابواب السعادة الابدية، وسيدخلكم - ايها المؤمنون - الجنة.. موطن ابيكم آدم عليه السلام.
الكلمة الحادية عشر: "واليه المصير"
أي ان الذين يُرسلون الى دار الدنيا.. دار الامتحان والاختبار للتجارة وانجاز الوظائف، سيرجعون مرة اخرى الى مرسلهم الخالق ذي الجلال، بعد أن ادّوا وظائفهم وأتموا تجارتهم وأنهوا خدماتهم وسيلاقون مولاهم الكريم الذي أرسلهم.. اي: انهم سيتشرفون بالمثول بين يدي ربهم الرحيم، في مقعد صدق عند مليكهم المقتدر، ليس بينهم وبينه حجاب. وقد خلصوا من مخاض الاسباب وظلام الحجب والوسائط وسيجد كل واحد منهم ويعرف معرفة خالصة كاملة خالقه وربه وسيده ومليكه.
فهذه الكلمة تشع املاً وتتألق بشرى تفوق كل تلك الآمال والبشارات اللذيذة، وتقول:
ايها الانسان! هل تعلم الى اين انت سائر؟ والى اين انت تُساق؟
فقد ذكر في ختام الكلمة الثانية والثلاثين:
ان قضاء الف سنة من حياة الدنيا وفي سعادة مرفهة، لا يساوي ساعة واحدة من حياة الجنة! وان قضاء حياة الف سنة وسنة بسرور كامل في نعيم الجنة لا يساوي ساعة من فرحة رؤية جمال الجميل سبحانه.
فأنت اذن ايها الانسان راجع الى ميدان رحمته، صائر الى اعتاب ديوان حضرته. فما الحسن والجمال الذي تراه في احبتك المجازيين - فتشتاق اليهم وتفتن بهم، بل ما الحسن والجمال في جميع موجودات الدنيا الاّ نوع ظلٍ من تجلي جماله سبحانه، وحُسن اسمائه جلّ وعلا. فالجنة بلطائفها ولذائذها وحورها وقصورها ما هي الاّ تجلٍ من تجليات رحمته سبحانه، وجميع انواع الشوق والمحبة والانجذاب والجواذب ما هي الاّ لمعة من محبة ذلك المعبود الباقي وذلك المحبوب القيوم!
فانتم ذاهبون اذن الى دائرة حظوته ومقام حضرته الجليلة..
وانتم مدعوون اذن الى دار ضيافته الابدية.. الى الجنة الخالدة.
فلا تحزنوا ولا تبكوا عند دخولكم القبر، بل استبشروا خيراً واستقبلوه بابتسامة وفرح.
وتتابع هذه الكلمة وظيفتها في بث نور الامل والبشرى وتقول:
ايها الانسان!
لا تتوهم انك ماضٍ الى الفناء، والعدم، والعبث، والظلمات، والنسيان، والتفسخ، والتحطم، والانهشام، والغرق في الكثرة والانعدام. بل انت ذاهب الى البقاء لا الى الفناء، وانت مسوق الى الوجود الدائم لا الى العدم، وانت ماضٍ الى عالم النور لا الى الظلمات وانت سائر نحو مولاك ومالكك الحق، وانت عائد الى مقر سلطان الكون..
سلطان الوجود.. سترتاح وتنشرح في ميدان التوحيد دون الغرق في الكثرة ابداً، فانت متوجه الى اللقاء والوصال دون البعاد والفراق!.
Hiç yorum yok:
Yorum Gönder